كيف تفعل الشركات الكبرى لتزداد نمواً، بينما تعاني المشاريع الصغيرة من المراوحة في مكانها؟
إنها مرحلة القلق أو التوتر التي تعقب النجاح فوراً، بعد أن يقف المشروع على قدميه ويحقق نجاحاً صغيراً أو كبيراً تبدأ لحظات الخوف أو القلق تدب في عروق رائد الأعمال أو صاحب المشروع .. يدور في باله كل لحظة عدد من الأسئلة المزعجة مثل: ماذا بعد؟ إلى أين سنتجه؟ كيف أقف لفترة أطول وكيف أتغلب على المنافسة المحتملة؟ نعم يجب أن نتوسع لكن كيف؟ وهكذا يتحول الهاجس من هاجس الخوف من عدم النجاح إلى هاجس الخوف من ضعف النمو (التوسع في النجاح)، وهو هاجس هام ولا بد منه لكنه قد يتحول إلى هاجس يدمر النجاح السابق مالم يأخذ المشروع قرارات التوسع أو النمو بشكل صحيح ويتفق مع واقع المرحلة الحالية متجهاً بكل طموح نحو مستقبل واضح المعالم.
لهذا السبب سأضع بين يديك مصفوفة آنسوف *Ansoff Matrix، وهي أداة استراتيجية تساعد رائد الأعمال/صاحب المشروع الصغير أو المتوسط الذي نجح في تأسيس التجربة الأولى/الانطلاقة في أن ينظر للتوسع بطريقة منهجية ومنظمة تزيل عنه القلق وتضعه وجهاً لوجه أمام خيارات جديدة.
تنطلق مصفوفة آنسوف من مجالين رئيسية للتوسع/النمو وهما: 1. الأسواق 2. المنتجات.
فأنت إما أن تقرر التوسع في الأسواق Markets أو التوسع في المنتجات Products، لكن هذين الخيارين ليست مفتوحة، فهي ركبت على رسم بياني لمنحنى عمودي وآخر أفقي لتشكل مصفوفة رياضية تتيح لك 4 خيارات للتوسع موضحة في الشكل التالي:
خيارات التوسع الاستراتيجية الأربعة كما هو موضح في الشكل أعلاه:
1. استراتيجية التغلغل في السوق: أنت تركز في هذا الخيار على تحقيق مبيعات أكثر لمنتجاتك الحالية في سوقك الحالي لزيادة حصتك السوقية Market Share. وهذا يعني المزيد من الجهد الإعلاني والتسويقي لتتمكن من الاستحواذ على نسبة أكبر من الحصة السوقية وتوسيع قاعدة عملائك ومحاولة الاستفادة القصوى من طاقات سوقك الحالي بمنتجاتك الحالية.
مثال: توسع شركة مطاعم البيك في مدينة جدة (نفس السوق × نفس المنتجات) حيث وصل عدد فروعها إلى أكثر من 30 فرع.
2. استراتيجية تطوير السوق: أنت تركز في هذا الخيار على بيع منتجاتك الحالية في أسواق جديدة، ففكرة التوسع في هذا الخيار هي في زيادة الأجزاء السوقية التي تستهدفها Market Segments مما سيزيد نموك في المبيعات بشكل كبير جداً مقارنة بالاستراتيجية الأولى، والسبب يعود إلى أن فرص فتح أسواق جديدة بنفس المنتجات هي أعلى من فرص التركيز على سوق واحد.
مثال: خطة توسع شركة مطاعم ماكدونالدز MacDonald's باستخدام خيار تطوير السوق على مستوى العالم حيث قامت بنسخ التجربة من خلال نظام الفرنشايز Franchise لتصل عدد فروعها إلى أكثر من 36000 فرع في 118 دولة حول العالم. فهي تبيع نفس منتجاتها (مع تعديلات فنية بسيطة لتتماشى مع ثقافة وأديان العملاء في مختلف الأسواق) في أسواق جديدة.
3. استراتيجية تطوير المنتجات: أنت تركز في هذا الخيار الاستراتيجي على بيع منتجات جديدة في أسواقك الحالية التي تعمل بها. ففرص التوسع والنمو في هذا الخيار تنطوي على فرضية رئيسية (أن سوقك الحالي قادر على استيعاب أنواع جديدة من المنتجات ومتعطش لها مما سيمكنك من إعادة بيع منتجاتك الجديدة لعملائك الحاليين)
مثال: قرار التوسع الذي اتخذته مكتبة جرير في المملكة العربية السعودية والتي رافقت اطلاقها لشعار (ليست مجرد مكتبة) كان يركز على الخيار الثالث وهو استراتيجية تطوير المنتجات، فلم تعد جرير مجرد مكتبة لبيع الكتب بل استطاعت أن توسع نطاق منتجاتها بطريقة جريئة جداً لتضم في رفوفها وساحات معارضها منتجات أخرى مثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والأدوات المكتبة وأدوات الرسم والفن المعماري وعدد من المنتجات الأخرى، حيث تشير بعض الاحصائيات التقديرية أن مبيعات الكتب (المنتج الرئيسي والأول لها) لا يتجاوز 5% من حجم المبيعات العام سنوياً.
4. استراتيجية التنوع: أنت تركز في هذا الخيار الأخير والأخطر على بيع منتجات جديدة لم يسبق العمل بها في أسواق جديدة لم يسبق لك العمل فيها. وهذه الاستراتيجية تتبع غالباً في الشركات الاستثمارية الكبرى والعابرة للقارات، حيث تمتلك أدوات وعلاقات وتمويل كافٍ لإجراء أبحاث تسويقية Marketing Research في أسواق جديدة لم يسبق العمل بها وليس لديها تجربة زمنية كافية فيها، وهي مستعدة لتنفيذ مخرجات هذه الأبحاث وما تقترحه عليها من منتجات جديدة لتنجح في الأسواق الجديدة والتي أجريت عليها الأبحاث والدراسات السابقة.
مثال: اتخذ مجلس إدارة شركة كبيرة الحجم تعمل في مجال الاستثمار في الأوراق النقدية والأسهم في الكويت العمل في مجال الفندقة والسياحة (وهو منتج جديد كلياً) في الجمهورية التركية (وهو سوق جديد كلياً)، وكان هذا القرار صائب حيث تتوفر سيولة نقدية عالية للشركة تزامنت في عام 2012 مع ذروة نضج قطاع السياحة في تركيا.
ماهي مشكلة التعامل مع خيارات التوسع بالنسبة للمشاريع الصغيرة والجديدة؟
للإجابة على هذا السؤال وبعد استقصاء ومتابعة شخصية مني لعدد من رواد الأعمال وأصحاب المشاريع الصغيرة وجدت أن صعوبة اتخاذ قرارات التوسع بالنسبة لهؤلاء تتمحور حول عدة نقاط من أهمها:
- عدم معرفة خيارات النمو التي تطرحها مصفوفة آنسوف من الأساس (ضعف المعرفة العلمية في إدارة النمو والتوسع).
- عدم مراعاة نقاط القوة والضعف عند اتخاذ قرار التوسع، فأحيانا تجد أن المشروع لديه سيولة نقدية متوسطة إلى عالية وخبرة فنية عالية (نقاط قوة) وهو يعمل في سوق متوسط أو ضعيف من حيث حجم الطلب (نقطة ضعف)، ومع ذلك تتجه الشركة للاستثمار في الخيار الأول وهو استراتيجية التغلغل (منتجات حالية × أسواق حالية)، وهو قرار قليل الفاعلية في هذا الموقف، فماذا لو استثمرت هذه المؤسسة أو الشركة السيولة النقدية والخبرة الفنية العالية في سوق جديد (سوق عالي الطلب وكبير)! بلا شك ستكون نتائج الشركة المالية أفضل وقدرتها على النمو الدراماتيكي أعلى.
- التفكير داخل الصندوق! المح كثيراً هذه الحالة الذهنية لدى عدد من رواد الأعمال عندما يتخذون قرارات التوسع بعد أن حققوا نجاحات مرحلة التأسيس والانطلاق. فأنا أشاهد بوضح كيف يفكر ويعتقد متخذ القرار بأن قراراته في مرحلة التأسيس التي أدت إلى نجاحه هي نفسها القرارات التي ستساعده في مرحلة التوسع! هل هذا صحيح؟ بلا شك هذه كارثة حقيقية، وقد فتكت سابقاً بشركة كبرى مثل شركة NOKIA التي كانت رائدة الاتصالات والهواتف المتنقلة في العالم بينما وبسبب عدم قدرتها على محاكاة الأفكار التي تعني النمو في اتجاهات جديدة كلياً كما فعلت Apple لم تستطع المنافسة وخرجت من السوق بخسائر باهظة، وهي الآن تعاني من محاولات الوصول لحصة سوقية في عالم الهواتف الذكية بمقدار 10% فقط بينما كانت تسيطر على 69% من الحصة السوقية على مستوى العالم.
- الخوف من العمل في أسواق جديدة، نعم ومن وجهة نظري أن أكبر مشكلة تعاني منها المشاريع الصغيرة في مرحلة التوسع هي (دائرة الأمان)، وتعني دائرة الأمان المساحة الجغرافية التي اعتادت الشركة على العمل فيه. فالنجاح في مرحلة النمو يعني الخروج من دائرة الأمان إلى دائرة الفرص، حيث أسواق جديدة ووفرة أعلى وأكبر.
- التوسع بدون دراسة مخاطر النمو لكل خيار من الخيارات الأربع. فوجود 4 استراتيجيات بين يديك لا تعني قدرتك على تطبيقها جميعاً وفي آن واحد، تذكر أن إدراك المخاطر وإدارتها بشكل صحيح يساعد المشاريع الصغيرة والمتوسطة على النمو بتوازن، ولذلك عليك أن تدرك درجة المخاطر المرتبطة بكل استراتيجية وأن تستعد لها جيداً. الشكل التالي يوضح تدرج الاستراتيجيات الأربعة من حيث درجة المخاطرة
- عدم وجود توائم بين خطة المشروع الاستراتيجية وبين قرار التوسع، فلا شك من الضروري أن تكون هناك موائمة وانسجام بين قرارات التوسع والنمو وبين رسالة ورؤية وقيم وأهداف الشركة الاستراتيجية.
- عدم وجود تمويل كاف لمرحلة التوسع، لذلك ينصح بفتح باب الاستثمار وإدخال رؤوس أموال كافية لتمويل خطة التوسع والنمو، فحتى لو نجح المشروع الصغير ووجد له طريق نحو الحياة إلا أنه قد لا ينجح في أن يكبر وينافس الكبار مالم يتم توفير سيولة مالية كافية لهذه المرحلة الاستراتيجية الهامة.
نصائح وتطبيقات عملية مقترحة لكل خيار من الخيارات الاستراتيجية الأربعة للتوسع والنمو:
أولاً: نصائح لتطبيق استراتيجية التغلغل في السوق (منتجات حالية × أسواق حالية)
- تركيز جهودك في تطوير أدوات التسويق والحملات الإعلانية التي تزيد من درجة التعرض لعملاء جدد في نفس السوق الحالي الذي تعمل به.
- التفوق على المنافسين في الجودة و/أو السعر و/أو الخدمة المتميزة.
- تفعيل أدوات التسويق الالكتروني وقنوات التواصل الاجتماعي بأفضل ما يمكن.
- زيادة معدل إعادة الاستخدام أو الشراء لمنتجاتك من قبل نفس العملاء من خلال برامج ولاء Loyalty Programs ومن خلال العروض المميزة.
- تشجيع المبيعات من خلال عروض وتخفيضات موسمية أو مفاجأة في الأسعار.
- زيادة قنوات البيع بحيث تشمل البيع في الفروع والبيع عن طريق الموقع الالكتروني Web store.
ثانياً: نصائح لتطبيق استراتيجية تطوير السوق (منتجات حالية × أسواق جديدة)
- فتح أسواق جديدة في مناطق جغرافية/مدن/دول جديدة ومختلفة.
- دراسة الأسواق الجديدة وتحليل العملاء وعدم الاعتماد على الخبرة السابقة في الأسواق الحالية، فقد تكون هناك اختلافات بسيطة لكنها تحدث فرق شاسع وكبير على أرض الواقع.
- إعادة تطوير طريقة التعبئة والتغليف للمنتجات الحالية وتحسين المظهر بين الحين والآخر.
- فتح قنوات توزيع جديدة بنظام الجملة أو الفرنشايز.
- الوصول لأسواق جديدة من خلال تفعيل البيع عن طريق الموقع الالكتروني Web store إن أمكن ذلك.
- التعاقد مع شركات اللوجستي والتوزيع التي تمتلك خدمات التوزيع الاحترافي مثل ARAMEX, DHL, Fedex، فقد تساعدك للوصول إلى أسواق جديدة بأقل تكلفة ممكنة.
- توظيف فريق مبيعات خارجي، يعمل على فتح الأسواق الجديدة بمنتجاتكم الحالية من خلال الاعتماد على لقاءات مباشرة وشخصية مع العملاء المحتملين.
ثالثاً: نصائح لتطبيق استراتيجية تطوير المنتجات (منتجات جديدة × أسواق حالية)
- عمل تحليل ودراسة عميقة لأذواق العملاء وتوجهاتهم الجديدة نحو الشراء والاستهلاك.
- تنظيم لقاءات مباشرة مع عدد من العملاء في ورشات عمل مفتوحة لأخذ اقتراحاتهم حول المنتجات الحالية واكتشاف فرص التطوير للمنتجات الحالية أو تطوير منتجات جديدة كلياً.
- وضع خطة واضحة لمسار التطوير في المنتجات الجديدة بحيث لا تكون عشوائية أو مزاجية بل تكون قائمة على احتياج العملاء مباشرة ووفق خطة مسبقة ومدروسة.
- لا ينصح بطرح منتجات جديدة تخالف القيمة الرئيسية لمنتجاتك في نظر العميل، فعلى سبيل المثال طرحت شركة سيارات فولفو Volvo سيارة رياضية جديدة تسمى 850 GLT، لا أظن أنك سمعت بها سابقاً لأنها فعلياً فشلت ولم تلقى نجاحاً لدى عملاء سيارات فولفو التي تتميز بالأمان. هكذا ينظر إليها العملاء، لذا لم تجد القيمة الجديدة (رياضية) صدى في نفوس وأذهان العملاء. بينما نجحت شركة كتربيلر CAT التي تصنع الآلات الثقيلة في طرح منتج بعيد جداً عن الآلات الثقيلة وهو أحذية رجالية ونجح هذا المنتج الجديد لأنه حافظ على نفس القيمة الذهنية في نظر العميل لشركة CAT وهي (المتانة والقوة).
رابعاً: نصائح لتطبيق استراتيجية التنوع (منتجات جديدة × أسواق جديدة)
- دراسة مخاطر التوسع باستخدام استراتيجية التنوع جيداً وبكل مصداقية وشفافية.
- الاستعداد المالي الجيد والكاف لهذا النوع من التوسع المكلف بسبب الأبحاث العلمية المطلوبة وقلة الخبرة في كل من الأسواق والمنتجات الجديدة.
- وجود فرص كبيرة وكافية لتحفيز أصحاب المال والشركة في أخذ الخطوات الجريئة للتوسع باستخدام الخيار الرابع والأكثر خطورة.
- وجود توازن بين تكلفة التوسع وحجم الأرباح المتوقعة.
- تفويض عملية التوسع لإدارة مستقلة تقوم بأعمالها باستقلالية وتفويض كامل من قبل أصحاب المشروع أو مجلس الإدارة.
* مصفوفة آنسوف Ansoff Matrix تنسب لعالم إدارة أمريكي من أصل روسي يدعى H Igor Ansoff، وقد قدم فكرته أول مرة في مقال نشر في مجلة هارفارد عام 1957م.
|